طرائق تأقلم الأستاذ مع تطور الحاجات المعرفية للمتعلم: تجربة تدريس اللغة العربية لتلاميذ الشعب العلمية نموذجا
يمثل الواقع التربوي للأستاذ اليوم عدة تحديات صنعتها عدة تحولات اجتماعية وتقنية ومعرفية، وهذه التحديات متمثلة خاصة في صورة مختلفة للمتعلمين اليوم، وهي صورة مختلفة كل الاختلاف عن التلميذ التونسي منذ عقد أو عقدين .. ويصبح هذا التحدي مضاعفا بالنظر إلى حال البرامج التربوية الرسمية التي لم تتطور منذ سنوات إضافة إلى استقرار طرائق التدريس على حالها دون تغيير جذري طيلة سنوات عديدة في حين أن صورة تلاميذ اليوم قد تغيرت كثيرا. وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن الطرائق الممكنة في التدريس والتي من شأنها أن تمكن المدرّس اليوم من الاستجابة للحاجات المتغيرة لتلاميذه ومحاولة تجاوز القطيعة بين إطار الدرس في القسم وتحولات شخصية المتعلم خارجه.
وفي هذا الإطار فإن مداخلتي ستهتم بثلاث طرائق أو بالأحرى تجارب لي في القسم تبيّن مجموعة من الممكنات البيداغوجية التي قد سعيت من خلالها إلى التأقلم بصورة أو بأخرى مع تلميذ اليوم الذي يحيا خارج القسم في عالم متغير كل يوم، بينما يجد في حصص التدريس رتابة في العمل التعليمية ونموذجا تقليديا متكررا لسير الدرس. وهذا التلميذ الذي أصبح يتعامل مع ممكنات لا نهائية في مجالات الصورة والبرمجة والديجتال وصناعة المحتوى، هو في نظري نموذج لتحدٍّ بيداغوجي يجابهه الأستاذ في كل حصة، فإما أن يبتكر طرائق جديدة ومختلفة لسير الحصة وشد انتباه المتعلم إلى الدرس، وإما أن تتعمق القطيعة أكثر بين المعلّم والمتعلّم من جهة، والمتعلّم والدرس من جهة أخرى.
الممكن الأول لتأقلم المدرّس مع الصورة المتغيرة باستمرار للتلميذ اليوم، يتمثل في إنجاز درس خارج الإطار التقليدي لفضاء التعلّم أي القسم، وهو درس خارج حدوده المألوفة وبتوزيع للفضاء التربوي ولأمكنة الجلوس على نحو يكسر النمط السائد في ذهن التلميذ. في هذا الإطار قمت في عدة مناسبات باقتراح أن ننجز حصة التواصل الشفوي أو المطالعة في ساحة المعهد، ملامح المفاجأة بالاقتراح على وجوه التلاميذ ثم الفرح فالارتياح كانت المؤشر الأول على إمكانية نجاح الحصة بتحقق انتباههم إلى محتواها. قمت بدعوة كل تلميذ إلى اصطحاب كرسيه معه والجلوس في شبة دائرة أكون أنا جزءا منها إلى جانبهم، وحينها يبدأ النقاش حول موضوع الحصة بيننا. وممكن تغيير الفضاء المعهود للدرس يتلاءم في نظري مع عالم متغير باستمرار يعيش فيه المتعلم خارج المؤسسة التربوية.
الممكن الثاني يتعلق أكثر بموضوع الدرس في مجال الشعر القديم عموما ومحور الشعر الجاهلي تحديدا. هذا المحور الذي يجد فيه تلميذ شعبتي العلوم والرياضيات نفسه مطالبا بفهم وتحليل نصوص تفصله عنها قرابة خمسة عشر قرنا، وهي عامة نصوص ذات لغة صعبة وصور شعرية بعيدة عن عالم اليوم. وقد حاولت إنجاز بعض الدروس في هذا المحور بطريقة مغايرة تتخلى عن الشرح التقليدي للقصيدة ودعوة التلاميذ بدل ذلك إلى أن يكتبوا هم هذا الشعر بطريقة القدامى بنسخه على أوراق بالحبر الصيني، وكان التحرك في القسم بحرية متاحا لهم، وصاروا هم يكتبون أبياتا من اختيارهم بأنفسهم.
الممكن الثالث يهتم بجعل حصة المطالعة قائمة على التفاعل المباشر بين المتعلم والمؤلف، ويكون ذلك باستضافة كتاب تونسيين ألفوا في مجال أدب اليافعين ليتحاور التلميذ معهم مباشرة داخل القسم ولا يكتفي بقراءة كتبهم.
كل هذه الممكنات وغيرها تبقى في أغلبها محاولات فردية عفوية للتأقلم مع صورة متغيرة للتلميذ اليوم أمام استقرار للبرامج التعليمية منذ عقود